الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وفي المراد وجهان:أحدهما: ولم يجد المشركون عن النار مصرفًا.الثاني: ولم تجد الأصنام مصرفًا للنار عن المشركين.قوله تعالى: {ولقد صرَّفنا في هذا القرآن للناس من كلِّ مثَل}.يحتمل وجهين:أحدهما: ما ذكره لهم من العبر في القرون الخالية.الثاني: ما أوضحه لهم من دلائل الربوبية، فيكون على الوجه الأول جزاء، وعلى الثاني بيانًا.{وكان الإنسان أكثر شيءٍ جَدلًا} يحتمل وجهين:أحدهما: عنادًا، وهو مقتضى الوجه الأول.الثاني: حجاجًا وهو مقتضى القول الثاني. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عليّ وفاطمة رضي الله عنهما وهما نائمان فقال: «الصلاة، ألا تصليان» فقال علي رضي الله عنه: إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثها بعثها، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلًا} [الكهف: 54].قوله عز وجل: {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءَهم الهُدى} فيه وجهان:أحدهما: وما منع الناس أنفسهم أن يؤمنوا.الثاني: ما منع الشيطان الناس أن يؤمنوا.وفي هذا الهدي وجهان:أحدهما: حجج الله الدالة على وحدانيته ووجوب طاعته.الثاني: رسول الله صلى الله عليه وسلم المبعوث لهداية الخلق.{إلاّ أن تأتيهم سنةُ الأولين} أي عادة الأولين في عذاب الإستئصال.{أو يأتيهم العذاب قبلًا} قرأ عاصم وحمزة والكسائي: {قُبُلًا} بضم القاف والباء وفيه وجهان:أحدهما: تجاه، قاله مجاهد.الثاني: أنه جمع قبيل معناه ضروب العذاب.ويحتمل ثالثًا: أن يريد: من أمامهم مستقبلًا لهم فيشتد عليهم هول مشاهدته.وقرأ الباقون {قِبَلًا} بكسر القاف.وفيه وجهان:أحدهما: مقابلة.الثاني: معاينة.ويحتمل ثالثًا: من قبل الله تعالى بعذاب من السماء، لا من قبل المخلوقين، لأنه يعم ولا يبقى فهو أشد وأعظم. اهـ.
وقرأ الأعمش: {فظنوا أنهم ملاقوها}، وكذلك في مصحف ابن مسعود، وحكى أبو عمرو الداني عن علقمة، أنه قرأ: {ملافوها} بالفاء مشددة من لففت، وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة» والمصرف المعدل، والمرغ، ومنه قول أبي كبير الهذلي: الكامل: وهو مأخوذ من الانصراف من شيء إلى شيء، وقوله تعالى: {ولقد صرفنا} الآية، المعنى: ولقد خوفنا ورجينا وبالغنا في البيان، وهذا كله بتمثيل وتقريب للأذهان، وقوله: {من كل مثل} أي من كل مثال له نفع في الغرض المقصود بهم، وهو الهداية، وقوله: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلًا} خبر مقتضب في ضمنه، فلم ينفع فيهم تصريف الأمثال، بل هم منحرفون يجادلون بالباطل وقوله: {الإنسان} يريد الجنس، وروي أن سبب هذه الآية هو النضر بن الحارث، وقيل ابن الزبعرى. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد نام عن صلاة الليل، فأيقظه، فقال له علي: إنما نفسي بيد الله، ونحو هذا، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضرب خده بيده ويقول: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلًا} فقد استعمل الآية على العموم في جميع الناس، والجدل الخصام والمدافعة بالقول، فالإنسان أكثر جدلًا من كل ما يجادل من ملائكة وجن وغير ذلك إن فرض وفي قوله: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلًا} تعليم تفجع ما على الناس، ويبين فيما بعد.{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)}.هذه آية: تأسف عليهم وتنبيه على فساد حالهم، لأن هذا المنع لم يكن بقصد منهم أن يمتنعوا ليجيئهم العذاب، وإنما امتنعوا هم مع اعتقادهم أنهم مصيبون، لكن الأمر في نفسه يسوقهم إلى هذا، فكأن حالهم تقتضي التأسف عليهم، و{الناس} يراد به كفار عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين تولوا دفع الشريعة وتكذيبها، و{الهدى} هو شرع الله والبيان الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والاستغفار هنا طلب المغفرة على فارط الذنب كفرًا وغيره، و{سنة الأولين} هي عذاب الأمم المذكورة من الغرق والصيحة والظلمة والريح وغير ذلك، {أو يأتيهم العذاب قبلًا} أي مقابلة عيانًا، والمعنى عذابًا غير المعهود، فتظهر فائدة التقسيم وكذلك صدق هذا الوعيد في بدر، وقال مجاهد: {قبلًا} معناه فجأة وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر ومجاهد وعيسى بن عمر: {قِبَلا} بكسر القاف وفتح الباء، وقرأ عاصم والكسائي وحمزة والحسن والأعرج {قُبُلًا} بضم القاف والباء، ويحتمل معنيين أحدهما أن يكون بمعنى قبل، لأن أبا عبيدة حكاهما بمعنى واحد في المقابلة، والآخر أن يكون جمع قبيل، أي يجيئهم العذاب أنواعًا وألوانًا، وقرأ أبو رجاء والحسن أيضًا: {قُبْلًا} بضم القاف وسكون الباء. اهـ.
قال ابن عباس: أيقنوا أنهم مواقعوها.وقيل: رأوها من مكان بعيد فتوهموا أنهم مواقعوها، وظنوا أنها تأخذهم في الحال.وفي الخبر: «إن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة».والمواقعة ملابسة الشيء بشدّة.وعن علقمة أنه قرأ: {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُلاَفُّوها} أي مجتمعون فيها، واللَّفَف الجمع.{وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا} أي مَهْرَبًا لإحاطتها بهم من كل جانب.وقال القتبي: مَعْدِلا ينصرفون إليه.وقيل: ملجأ يلجأون إليه؛ والمعنى واحد.وقيل: ولم تجد الأصنام مصرِفًا للنار عن المشركين.قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ}.يحتمل وجهين: أحدهما: ما ذكره لهم من العبر والقرون الخالية.الثاني: ما أوضحه لهم من دلائل الربوبية وقد تقدم في سبحان؛ فهو على الوجه الأوّل زجر، وعلى الثاني بيان. {وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} أي جدالًا ومجادلة، والمراد به النضر بن الحارث وجداله في القرآن. وقيل: الآية في أبيّ بن خلف. وقال الزجاج: أي الكافر أكثر شيء جدلًا؛ والدليل على أنه أراد الكافر قوله: {ويُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بالْبَاطِلِ}.وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يؤتى بالرجل يوم القيامة من الكفار فيقول الله له: ما صنعتَ فيما أرسلتُ إليك فيقول: رب آمنتُ بك وصدّقت برسلك وعملتُ بكتابك فيقول الله له: هذه صحيفتك ليس فيها شيء من ذلك فيقول: يا رب إني لا أقبل ما في هذه الصحيفة فيقال له هذه الملائكة الحفظة يشهدون عليك فيقول: ولا أقبلهم يا رب وكيف أقبلهم ولا هم من عندي ولا من جهتي فيقول الله تعالى: هذا اللوح المحفوظ أمّ الكتاب قد شهد بذلك فقال: يا رب ألم تُجرني من الظلم قال: بلى فقال: يا رب لا أقبل إلا شاهدًا عليّ من نفسي فيقول الله تعالى الآن نبعث عليك شاهدًا من نفسك فيتفكر من ذا الذي يشهد عليه من نفسه فيختم على فيه ثم تنطق جوارحه بالشرك ثم يُخلَّى بينه وبين الكلام فيدخل النار وإنّ بعضه ليلعن بعضًا يقول لأعضائه: لعنكنّ الله فعنكنّ كنتُ أناضل فتقول أعضاؤه: لعنك الله أفتعلم أن الله تعالى يُكْتَم حديثًا فذلك قوله تعالى: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلًا}» أخرجه مسلم بمعناه من حديث أنس أيضًا.وفي صحيح مسلم عن عليّ أن النبي صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة ليلًا فقال: «ألا تصلّون؟ فقلت: يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا؛ فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت له ذلك، ثم سمعته وهو مدبر يضرب فخذه ويقول: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلًا}».قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَاءَهُمُ الهدى} أي القرآن والإسلام ومحمد عليه الصلاة والسلام.{وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين} أي سنتنا في إهلاكهم؛ أي ما منعهم عن الإيمان إلا حكمي عليهم بذلك؛ ولو حكمت عليهم بالإيمان آمنوا.وسنة الأوّلين عادة الأوّلين في عذاب الاستئصال.وقيل: المعنى وما منع الناس أن يؤمنوا إلا طلب أن تأتيهم سنة الأوّلين فحذف.وسنة الأوّلين معاينة العذاب، فطلب المشركون ذلك، وقالوا: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} [الأنفال: 32] الآية.{أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب قُبُلًا} نصب على الحال، ومعناه عِيانا؛ قاله ابن عباس.وقال الكلبيّ: هو السيف يوم بَدْر.وقال مقاتل: فجأة.وقرأ أبو جعفر وعاصم والأعمش وحمزة ويحيى والكسائي {قُبُلًا} بضمتين أرادوا به أصناف العذاب كلّه؛ جمع قبيل نحو سَبِيل وسُبُل.النحاس: ومذهب الفراء أن {قُبُلا} جمع قَبِيل أي متفرّقًا يتلو بعضه بعضًا.ويجوز عنده أن يكون المعنى عِيانا.وقال الأعرج: وكانت قراءته: {قُبُلًا} معناه جميعًا.وقال أبو عمرو: وكانت قراءته: {قِبَلًا} ومعناه عِيانا. اهـ.
|